17 - 07 - 2024

إيقاع مختلف| زرياب

إيقاع مختلف| زرياب

سَرَى مَقَامٌ عِرَاقِىٌّ فَأشجَانِى

يَا مَوْصِلِىُّ، مَضَى زِريَابُ

فَانكَسرَتْ قَارُورُةُ الدَّمعِ

فَاحَ اللَّحنُ أَبكَانِى

هذا هو مطلع قصيدة "مقام عراقى" التى كنت ألقيها فى واحد من المنتديات الأدبية، حين سألنى أحد الحضور : من يكون زرياب؟ 

ولأننى أعتبر "زرياب" شخصية فذة يمكن أن تدخل ضمن من أسماهم "رجاء النقاش" (عباقرة ومجانين) فقد آثرت أن أقف أمام رحلته قليلاً وأعيد إليه بعض حقه من المعرفة والتقدير.

هو موسيقار عبقرى، لكنه ليس موسيقياً فحسب، بل هو الرجل الذى تدين له أوروربا بعاداتها المتحضرة فى المأكل والملبس والعادات المتحضرة التى اعتدنا تسميتها "قواعد البروتوكول" حتى أطلق عليه لقب "معلم الناس المروءة".

ولد "زرياب" فى الموصل فى السنوات الأخيرة من القرن الثامن الميلادى، وعاش فى النصف الأولى من القرن التاسع، وأخذ لقبه "زرياب" من جمال صوته وسمرة ملامحه، فشبهوه بالطائر الذى يعرف أيضا باسم "الشحرور"، وقد كانت حياته دراما إنسانية ملأى بالمعانى والدلالات.

كان "إسحق الموصلى" الموسيقار الأثير فى بلاط الخليفة "هارون الرشيد"، وكان "زرياب" تلميذا ل"إسحق الموصلى" ، وحين طلب "الرشيد" أن يسمع جديداً ، أحضر "إسحق" "زرياب" إلى بلاط الخلافة.

وقيل إن زرياب قال للخليفة : إِذَا شِئتَ أَنْ أُغَنِّيَكَ غِنَاءَ أُستَاذِى غَنَّيتُ عَلَى عُودِهِ، وَإِنْ شِئتَ أَنْ أُغَنِّىَ غِنَائِىَ، فَلتَـأذَنْ لِى بِأنْ أُغَنِىَ عَلَى عُودِى أَنَا" 

فأذن له، فلما أتم غناءه بهر الرشيد بموهبته الطاغية، وسأل "إسحق": أَينَ كُنْتَ تُخْفِيهِ عَنَّا؟!

فلما خرجا من بلاط الخليفة، قال إسحق: يَا زِريَاب إِنَّ بَغدَادَ مَا عَادَتْ تَتَّسِعُ لِى وَلَكَ، وَعَنْ قَليلٍ تَسقُطُ مَنزِلَتِى وَتَرقَى أَنتَ فَوقِى، وَهَذَا مَالا أُصَاحِبُكَ عَلَيهِ وَلو كُنتَ وَلدِى، وَإنِّى لا أَدَّخِرُ جُهدَاً فِى التَّخَلُّصِ مِنكَ، فَتَدَبَّرْ أَمرَكَ ".

خاف زرياب على حياته وقرر أن يذهب بعيداً، اختار أن يذهب إلى قرطبة فى الأندلس.، فأحدث ثورة حضارية حقيقية، لا فى قرطبة فحسب، ولا حتى فى الأندلس وحدها، بل فى أوروبا كلها. 

لقد نقل زرياب إلى أوروبا أرقى ما فى الشرق من تحضر، وارتقى بالذوق الإنسانى على المستويات كافة، فقد وضع للطبقات الراقية قواعد السلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام، كما دربهم على إعداد مائدة راقية تُقدم فيها الأطباق حسب نظامٍ وترتيبٍ خاص، أخذوا عنه استخدام الأواني الزجاجية بدلاً من الفضة والذهب، وعلّمهم فن التجميل والعناية بالبشرة، أدخل إليهم طرقاً لقصآ الشعرآ وتسريحه، ووضع لهم نظاماً لارتداء الملابس وفقاً لفصول السنة وتقلبات الجو، والانتقال من ارتداء الملابس القطنية الخفيفة في الصيف إلى ارتداء الملابس المصنوعة منآ الفراءآ شتاء"، و فتن الناس بآدابه وسعة ثقافته وتنوع معرفته، ووصفوه بأنه الرجل الأنيق في كلامه وطعامه، آ واشتهر عنه إقامة الولائم الفخمة وتنسيقها، وكان ذلك كله النواة الأولى في فخامة قصور ملوك الأندلس وبيوت الأغنياء وأناقتهم، وفي الزي والتصميم تخير زرياب البساطة والتناسق والرشاقة، وأدخل الشطرنج إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا.

وهكذا كان زرياب المعبر الإنسانى الذى عبرت عليه آيات تحضر بغداد إلى الأندلس ومنها إلى كل أرجاء أوروبا، أما فى ميدان الموسيقى فله إنجازت مدهشة، فقد أضاف الوتر الخامس للعودمما أكسبه ألطف معنى وأكمل فائدة ، كما أنه آ اتخذ منآ ريشآ النسر ريشة يضرب بها على الأوتارآ بدلا من الخشب، وأبدع في تنسيق الألحان، حتى توهّم الناس أنآ الجنآ هى التي تعلّمه.

ذلك هو زرياب ... أسطورة الموسيقى والحضارة.
 -----------------

بقلم: السيد حسن


آ 

آ 

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة